Admin المدير العام للمنتدى
عدد المساهمات : 72 تاريخ التسجيل : 02/10/2011 العمر : 34 الموقع : Tuniprograms.Forumarabia.com
| موضوع: الغلام والملك الإثنين أكتوبر 24, 2011 2:16 pm | |
|
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفِرُه، ونعوذ بالله من شرورِ أنفُسِنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
وبعد:
لعلَّ كثيراً منَّا قد سمِعَ بقصة الغلام المؤمن مع الطاغية الملِك.. كما رواها مسلم في صحيحه.. لكنني أجد أننا - بين الفينة والأخرى - بحاجة إلى أن نجدد الوقوف على بعض معاني ودلالات كلمات تلك القصة العظيمة بجميع مشاهدها وفصولها؛ لما تحمله من معانٍ إيمانيةٍ عالية.. ولارتباطها بواقعنا المعاصر والمعايش.. ولتكرار مشاهدها وفصولها وأحداثها - أو بعضها - في كثيرٍ من الأمصار والبلدان.. لكي نأخذ منها لأنفسنا وأجيالنا القادمة العِبر والعِظات، والزاد الذي يعيننا - بإذن الله - على تحمل تبعات المسير في طريق الحق والدعوة والجهاد والبناء.. ومواجهة طغيان وظلم الطواغيت الظالمين.
فهيا بنا لنقف معاً على معاني ودلالات كلمات تلك القصة العظيمة كلمة كلمة.. سائلين الله تعالى السداد، والتوفيق، والقبول.. إنه تعالى سميع قريب مجيب.
* * * أخرج مسلمٌ في صحيحه بسنده عن صُهيب، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:
(كان ملِكٌ فيمن كان قبلَكُم)؛ ملك طاغية جبار، استعبد شعبه، وعبَّدَهم لنفسه وقانونه، وأهوائه.. وجعل من نفسه عليهم رباً وإلهاً، ما يريهم إلا ما يرى.. ويشرع لهم ما يهوى.. لا حكم يمضي على شعبه إلا حكمه.. من أنكر ألوهيته وربوبيته من شعبه عذبه، وقتله.. وطارده.. فجعل من نفسه نداً لله عز وجل وشريكاً له سبحانه وتعالى في كثير من خصائصه وصفاته!
وما أكثر الطواغيت الظالمين في زماننا الذين يُشابهون ذلك الملك الطاغية في كثير من صفاته وخصاله الآنفة الذكر.. ولا أرى فارقاً بين ذلك الملك الطاغية وبين طواغيت هذا العصر سوى أن الملك الطاغية كان يزعم الربوبية والألوهية بكل وضوح ووقاحة وصراحة؛ فكان يملك الجرأة على أن يقول لشعبه أنا ربكم الأعلى.. لا رب ولا إله لكم غيري.. بينما طواغيت هذا العصر الذين ابتليت بهم الأمة - ومنذ زمن - يزعمون الربوبية والألوهية بأساليب مبطنة مسيَّجة بالخبث والدهاء؛ حيث ما من طاغية - بلسان الحال أو القول - إلا ويقول لشعبه: لا حاكم ولا مشرع لكم سواي.. ما أريكم إلا ما أرى.. فما أحله لكم فهو الحلال.. وما أحرمه عليكم فهو الحرام.. وما أحسِّنه فهو الحسن وما أقبِّحه فهو القبيح.. أوالي من أشاء وأنتم تبع لي في ذلك.. وأعادي من أشاء وأنتم تبع لي في ذلك.. دستوري وقانوني يعلو ولا يُعلَى عليه.. طاعتي عليكم واجبة لا طاعة غيري؛ فمن عصاني بطاعة غيري حاربته وطاردته وسجنته وقتلته.. أنتم وما تملكون ملكاً لي.. وأفضل ما أملكه مما أملك هو أنتم بني الإنسان.. أنتم تُسألون وأنا - مهما فعلت - فوق المساءلة؛ فلا أُسأل عما أفعل.. ومن تجرأ فسألني أو ساءلني فالويل كل الويل له!
تشابهوا في الطغيان والكفر والظلم بل وتطابقوا.. واختلفوا في الكلمات أو صراحة الأسلوب الذي يُعبر عن مدى وضوح ذلك الطغيان والكفر والظلم.. والآخر أدهى وأمر!
(وكان له ساحِرٌ)؛ مهمته أن يزور الحقائق في أعين الناس؛ فيريهم الحقَّ باطلاً والباطل حقاً!
مهمته أن يروج باطل الملِك ويُزين طغيانه وربوبيته وألوهيته في أعيان الناس!
مهمته أن يُثبِّت ملك الملك - بما أوتي من شعوذة وسحر وكفر - ويُعبِّد العباد للطاغية الملك، حتى لا يوجد منهم معترضاً، ولا ثائرا!
هذا الساحر نموذج للسحرة الذين يُنافحون ويُجادلون عن الطواغيت الظالمين وملكهم عبر جميع العصور والأزمنة؛ حيث ما من طاغية ابتليت به الأمم والشعوب - لكي يستمر ملكه وحكمه واستعباده للبلاد والعباد - إلا وله سحرة يتكئ عليهم في الملمات والشدائد ينافحون عنه، وعن ملكه، وحكمه وقانونه.. يقلبون الحقائق ويزورونها في أعين الناس.. حتى أن المرء يرى الحق باطلاً والباطل حقاً.. والحلو مراً والمر حلواً.. والقبيح جميلاً والجميل قبيحاً.. والمعروف منكراً والمنكر معروفاً!!
من جملة السحرة الذين يتكئ عليهم الطاغوت في هذا العصر مشايخ السوء والبلاط.. علماء اللسان والمنطق.. الذين يجعلون من أنفسهم وعلمهم أدوات طيعة تنافح عن ظلم وطغيان وكفر وأنظمة الطواغيت الظالمين!
ومن السحرة كذلك هذا الإعلام - بجميع وسائله وأنواعه المقروءة منها والمسموعة والمرئية - الذي يبث للناس ثقافة الطاغوت.. وثقافة عبادة الطاغوت، والركون إليه والرضى به!
ومن السحرة كذلك وسائل الإغواء واللهو الحرام - وما أكثرها في زماننا - التي تُهيج الشهوات.. وتجعل المرء أسير شهواته ونزواته زمنَهُ كلَّه.. لا فكاك له من سلطانها وضغطها، وكأنه مربوط بألف عفريت وشيطان!
لذا لا غرابة لو وجد - من بيننا - من قد فُتن بثقافة الطاغوت.. ودخل في عبادة الطاغوت وحِزبه.. وهذا كله يحصل بفعل سحر السَّحرة الآنفة الذكر!
اطرح مسألة واحدة للنقاش.. تجد حولها ألف رأي ورأي.. وهذا كله بفعل سحر السحرة الماكرين!
بل اطرح لوناً واحداً وسل عن لونه.. لوجدت العشرات يجيبونك؛ كل واحد منهم تُريه عينه مالا يراه الآخر؛ فيُجيبك بجواب يختلف عن جواب الآخر.. وهذا كله بسبب سحر السحرة الماكرين!
المعروف - عند كثير من الناس - أصبح منكراً ومستهجنا، والمنكر أصبح معروفاً ومستحسنا.. والباطل حقاً، والحق باطلاً.. والظلم عدلاً، والعدل ظلما.. وهذا كله يحصل بفعل سحر السحرة الماكرين!
اضطربت الأذواق ففسدت على أصحابها.. فلم يعد يوجد عندهم حق متفق عليه غير قابل للنقض والنقاش.. ولا ثابت من الثوابت يُحترم ويُرجع إليه.. فكل شيء - إلا ثقافة عبادة الطاغوت - قابل للنقد والرفض والتغيير.. ويخضع لرغبة الشعوب المسحورة المقهورة!
(فلما كَبُرَ - أي السَّاحر - قال للملِك: إني قد كَبُرتُ)؛ مشعراً الطاغية الملك بالخطر، ودنو الأجل الذي قد يذهب معه سحر الساحر، فينكشف غطاء السحر عن أعين الناس.. وتتجلى لهم الصور والحقائق على حقيقتها.. وهذا فيه من الخطر على الملك وسلطانه ما فيه.. لذا لا بد له من أن يستدرك الأمر قبل حلول أوان الخطر!
فما هو الحل.. وما المطلوب؟!
(فابعث إلي غلاماً أعلِّمُه السِّحرَ)؛ ليرثني في السحر، وخدمة الطاغية الملك، ولتستمر فاعلية السحر وأثره على الناس؛ لأن السحر - لكي تُؤتَى ثماره - لا بد من أن يُدعَّم بشحنات سحرية متواصلة من دون أدنى انقطاع؛ فلو حصل أي انقطاع أو توقف في عملية السحر، سرعان ما ينكشف السحر ويبطل.. وينقلب على صاحبه!
لذا نجد سِحرَ سَحرَة طواغيت هذا العصر - بأنواعها المتعددة الآنفة الذكر - يُبث للناس على مدار الوقت ومن دون أدنى انقطاع أو توقف.. حتى لا يخلد المرء إلى الراحة والخلو مع النفس ولو لدقيقة واحدة، فينكشف له الغطاء، ويعرف حقيقة السحر!
صدق الله العظيم: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً** سبأ: 33. فليس مكر الليل وحسب، ولا مكر النهار وحسب؛ بل مكر الليل والنهار معاً؛ مكرٌ متواصل ومستمر من دون أدنى توقف أو انقطاع!
(فبعَثَ إليه غُلاماً يُعلِّمُه)؛ السحر، والدخول في طاعة وخدمة وعبادة الملِك.. ثم لماذا " غلاماً " وليس شاباً، ولا رجلاً؟!
الجواب: لأن الغلام أسرع تعلماً وفهماً، وأطوع على التعليم، والدخول في الطاعة والعبودية؛ فعوده لا يزال غضَّاً طرياً قابلاً للَّيِّ والاعوجاج - كما يريد الساحر - أكثر من غيره!
ولكي يضمن الطاغية الملك لنفسه وعرشه، ومُلكه ونظامه، وقانونه.. خدمة أطول، وسحراً يمتد للأجيال القادمة.. وهذا لا يمكن أن يتحقق له إلا إذا كان المتعلم للسحر غلاماً!
لذا نجد طواغيت العصر في زماننا يركزون - من خلال سحرتهم وما يملكون من وسائل - على الأطفال والناشئة، ليستمر طغيانهم ونظامهم.. ولتستمر لهم امتيازاتهم الضخمة - عبر الأزمان والأجيال القادمة - من دون معارض أو منكر أو مُسائل.. فنراهم - من أجل ذلك - يربون أطفالنا وناشئتنا على موائد الكفر والسحر.. وعلى تمجيد الطاغوت وتعظيمه.. وتعظيم قانونه.. والدخول في موالاته وعبادته من دون الله!
(فكان في طريقه إذا سَلَكَ راهبٌ)؛ أي إذا سلك - هذا الغلام - في طريقه من بيته إلى مكان الساحر ليتعلم منه السحر، ويأخذ منه الطريقة.. وجد راهباً من أهل العلم والتوحيد منقطعاً عن الناس.. ومختبئاً عن أعين الظالمين من جند الطاغية الملِك، الذين يُطاردون ويُلاحقون ويقتلون كل موحد يكفر بألوهية وربوبية الطاغية الملك!
فالطاغية الملِك، والساحر، وغيره من حاشية الملك.. يخططون ويدبرون ويمكرون.. والله من فوقهم يدبر ويمكر خلاف ما يمكرون ويُدبرون: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ**، وكان من مكر الله سبحانه وتعالى وتدبيره أن قدر وجود هذا الراهب العالم في طريق الغلام!
كم من غلام وفتى يُنشَّأ ويُربى على موائد الطاغوت في مدارسه وجامعاته.. ومعاهده.. ومعسكراته.. وحاناته.. وعلى أيدي سحرته.. أملاً في أن يكون من جند المستقبل الذين يتجندون للذود عن الطاغوت وحزبه، ونظامه ومكتسباته.. ثم تتعهده يد اللطيف الرحمن بالعناية والرعاية، فيسخِّر الله له الأسباب التي تُخرجه من الظلمات إلى النور.. ومن عبادة الطاغوت إلى عبادة الله وحده.. ومن القتال في سبيل الطاغوت إلى القتال في سبيل الله وحده.. ليعلم الجميع أن الله تعالى لا يُعجزه شيء، وأنه تعالى قادر على أن يخرج من الشيء ضده لو أراد!
(فقعَدَ إليه وسمِعَ كلامَهُ، فأعجبَهُ)؛ للفارق الكبير بين كلام العالِم الراهب الذي يلامس العقل، والقلب، والفطرة.. وبين كلام الساحر الذي يعتمد على الكذب، والتكلِّف، والشعوذة، والإغراء، والمتعة الزائفة السريعة الزوال!
فالسَّحرة مهما أوتوا من قوة ومن دهاء ومكر، وإغواء، ووسائل.. وكانوا عليمي اللسان.. فهم لا يقدرون على الصمود والوقوف أمام كلمة الحق، وإن كان صاحبها شيخاً ضعيفاً مطارداً لا يملك من أسباب القوة تلك التي يملكها الطاغوت وسحَرته!
فالحق مهما جُرِّد من أسباب القوة، وقلَّ أنصاره وأعوانه، فهو قوة شامخة بذاته - ترهب الطواغيت الظالمين - له بريقه وجاذبيته الخاصة به التي تلامس العقول والفطر السليمة مباشرة.. لتأطرها - بإذن الله - إلى ساحة الحق وصفه.
تأملوا - عبر التاريخ كله - كم من طاغية وجبار وفرعون قد أعلن الحرب على الدعوة إلى الله وإلى توحيده.. ثم انظروا أين دين الله الذي هو في امتداد وتوسع مستمر.. وأين أولئك الطواغيت والفراعنة الذين ناصبوا الدعوة إلى الله وإلى توحيده الحرب والعداوة والبغضاء.. حيث انتهى مآلهم إلى اللعن والبغض في الأرض..
ليكونوا يوم القيامة حطباً من حطب نار جهنم والعياذ بالله!!
رغم كل ذلك فطواغيت العصر وفراعنته لا يعتبرون.. فشهوة المُلكِ وحبُّ التسلُّطِ والاستعلاء في الأرض يُعمي أبصارهم وبصائرهم.. إن كان لهم بصائر؟!!
(فكان إذا أتى الساحِرَ)؛ لم يستطع أن يُقاوم ما وقع في قلبه من ميل شديد لما سمعه من الشيخ الراهب، من قول حق، لذا كان يستغل قدومه إلى الساحر.. فكان إذا أتاه (مرَّ بالراهبِ وقعَد إليه)؛ ليسمع منه كلام الدين والإيمان.. ويزداد علماً بهذا الدين الجديد الذي سمعه من الراهب.. لأنه لا يستطيع أن يقصده في غير هذا الوقت - الذي يأتي فيه الملِك - خشية أن ينكشف أمره!
فهو مجرد لقائه بالشيخ الراهب يُعد تهمة يستحق عليها - في قانون الطاغية الملك - القتل، والإعدام.. شأنه في ذلك شأن طواغيت العصر في زماننا الذين يُلاحقون طلاب العلم.. ويتجسسون عليهم في حلقاتهم.. ماذا يقولون وماذا يكتبون.. ويُلاحقون شيوخهم الذين خرجوا عن الطاعة للطاغوت وقانونه.. ويُجرِّمون كل من جالسهم!
(فإذا أتى السَّاحِرَ ضربَهُ)؛ للتأخير عن الموعد المحدد الذي يتلقى فيه علم السحر عن الساحر.. وخشية أن يكون قد ذهب إلى أماكن أخرى لا تناسب من اصطفاه الملك لنفسه، وبلاطه كما لا تناسب المهمة التي يُعد لها؛ فهو لكي ينجح في مهمته هذه لا بُد من أن يُعد الإعداد المميز والخاص به كساحر مستقبلي للملك!
ثم أن ضرب الساحر للغلام لهو دليل على إفلاس الساحر، وضعف وخواء حجته فيما يلقنه للغلام من علوم سحرية.. لأن الضرب في عملية الإقناع لا يلجأ إليه إلا من أعدمت وسائله وضعفت حجته!
(فشكا ذلك إلى الراهبِ)؛ وهذا دليل على استئناس الغلام بالعالِم الراهب واطمئنانه إليه؛ لما رأى منه من أدب وحلم وعلم ورفق وخُلق ودين.. مما جرأه على أن يشكو إليه ما يُعاني منه.. ويُعتبر ذلك أولى المؤشرات على اقتناع الغلام بدعوة الراهب.
(فقال: إذا خشيتَ الساحِرَ فقل: حبسَني أهلي، وإذا خشيتَ أهلكَ فقل: حبسني الساحِرُ)؛ أي فاعتذر للساحر بأهلك، ولأهلك بالساحر، فتسلم بذلك من شرهما وأذاهما، وبنفس الوقت تتمكن من الجلوس معي لتسمع كلام الدين والإيمان.. إذ لا بد لك من ذلك.. فطلب العلم الواجب فريضة لا يجوز أن يحول دونها حائل يمكن دفعه!
وفي هذا التوجيه دليل على جواز مخادعة الأهل - وما أكثر هذا النموذج من الأهل في زماننا - بعبارات التورية إذا كانوا يمنعون أو يُمانعون أن يحضر ولدهم مجالس العلم بين أيدي العلماء!
كثير من الآباء لا يُمانعون أن يذهب ولدهم في أي اتجاه شاء.. بينما تراهم يمانعون أشد الممانعة لو علموا من ولدهم أنه يتوجه نحو التدين وطلب العلم.. ومجالسة أهل العلم.. خشية أن يصنفه الطواغيت الظالمون بأنه من الإرهابيين، أو ممن يُجالس الإرهابيين!!
(فبينما هو كذلك)؛ أي يُجالس الساحر ويسمع منه، ويُجالس الراهب المؤمن ويسمع منه.
(إذ أتى على دابَّةٍ عظيمةٍ قد حبَست الناس)؛ أي حبست عليهم الطريق فمنعتهم أن يمروا، وهذا دليل على عِظَم وكبر هذه الدابة!
هذه الدابة التي آذت الناس في طريقهم كانت سبباً في حصحصة الحق، وإظهار الحق من الباطل.. وهداية كثير من الناس.. فرب ضارة نافعة.. ولو اطلعتم على الغيب لرضيتم بالواقع!
(فقال: اليومَ أعلمُ آلساحِرُ أفضلُ أمِ الراهبُ أفضل؟)؛ العبارة تفيد أن الغلام كان إلى تلك اللحظة لا يزال متردداً شاكاً بالحق؛ وهذا عائد لمصادر التلقي التي كان يتلقاها من الساحر الكافر.. وهي تعرفنا كذلك على حجم الضغط الكبير الذي كان يُشكله الساحر على الغلام!
فمصادر التلقي - كانت صالحة أم طالحة - هي التي تُشكل عقائد وسلوك وأخلاق الإنسان؛ فإن كانت مصادر تلقي العلوم والمبادئ والقيم والمفاهيم تخضع لثقافة الطاغوت، ومستمدة من ثقافة الطاغوت.. شكلت - ولا بد - سلوكاً منحرفاً، وتصورات منحرفة لدى الإنسان.. وإن كانت تخضع لثقافة الحق، ومستمدة من ثقافة الحق.. شكلت - ولا بد - سلوكاً صالحاً، وتصورات وقيم صالحة وراقية لدى الإنسان.. من هنا عنا الإسلام عناية بالغة بأهمية التوجه نحو مصادر التلقي الصالحة النافعة، وحذر من الانشغال أو العكوف على مصادر التلقي الباطلة!
أعجب للإنسان الذي يمنع الأوساخ من أن تدخل إليه عن طريق فمه.. بينما لا يمانع أن تتسرب إليه معاني الكفر والفسوق والضلال عن طريق عينيه وأُذنيه، علماً أن ضرر الأول عضوياً مقصوراً على الجسد، بينما ضرر الآخر معنوياً؛ مؤداه إلى تدمير الإيمان في القلب.. وهذا - لا شك أنه - أشد فتكاً وضرراً على الإنسان من الضرر العضوي!
(فأخذَ حجراً فقال: اللهم إن كان أمرُ الراهبِ أحبَّ إليكَ من الساحرِ فاقتُلْ هذه الدابَّةِ)؛ أي إن كان دين الراهب وما هو عليه أحبَّ إليك من دين الساحرِ وما هو عليه من سحر.. فاقتل هذه الدابة!
(حتى يمضيَ الناسُ، فرماها فقتلها، ومضى الناسُ)؛ فقتلها بإذن الله، ومضى الناس إلى حاجتهم، كل إلى سبيله.. بعدما رأوا هذه الآية العظيمة تتحقق على يد الغلام!
هنا تيقن الغلام أن دين الراهب وما هو عليه من هدى هو الحق، وهو أحب إلى الله من دين الساحر وما هو عليه من سحر وشعوذة.. فآمن الغلام إيماناً لا تزعزعه المحن ولا البلايا!
(فأتى الراهِبَ فأخبَرهُ)؛ بالكرامة التي تحققت على يديه.. وأنه - بعد أن رأى هذه الكرامة - قد عزم أمره، واتخذ قراره بالإيمان بالله عز وجل.. وبالجهر بالدعوة إلى الله وحده، والكفر بالطاغوت!
(قال له الراهبُ: أي بُني أنت اليومَ أفضَلُ مني؛ قد بلغَ من أمركَ ما أرى)؛ يا سبحان الله! الأمس كان الغلام تلميذاً عند الشيخ الراهب يتلقى منه العلم.. واليوم أصبح أفضل منه!
فما الذي تغير وتبدل؟!
إنه القبول الذي به يتفاضل العباد.. قد نال الغلام قبولاً عند الله لم ينله العالِمُ الراهب على ما أوتي من علم وفضل.. والشيخ الراهب قد أدرك ذلك فقال شهادته القائمة على العدل والإنصاف والتجرد والتواضع (أنت اليومَ أفضَلُ مني)!
ما أحوجنا - في هذا الزمان - إلى مثل هذا الإنصاف والعدل.. إلى أن يقول الأستاذ لتلميذه - إن رأى منه نبوغاً في جانب يميزه عنه - أنت اليوم أفضل مني!!
أين هؤلاء الشيوخ الذين غرهم حفظ بعض المتون.. والذين ينظرون بازدراء وترفع واحتقار لشباب أكرمهم الله بحراسة الأمة من أعدائها على الثغور.. من هذا الخلق والإنصاف!
ما يضير الشيخ القاعد.. لو قال للشاب المجاهد في سبيل الله.. أنت اليومَ أفضل مني؟!
(وإنك ستُبتَلى)؛ لأنك دخلت في أمرٍ لا يدخل فيه أحد إلا وقد ابتلي.. قد عزمتَ على الصدع بالحق، والدعوة إلى الله، والجهر بالكفر بالطاغوت.. وقد أيدك الله بالكرامات والآيات.. وهذا طريق ما سار فيه أحدٌ إلا وابتلي في الله.. فخذ حذرك، واستعد لذلك!
فالمؤمن مبتلى.. يُبتلى على قدر دينه وإيمانه.. وجهاده وصدعه بالحق.. قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ** العنكبوت: 2. وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ** محمد: 31.
وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه؛ فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه ". وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الصالحين يُشدَّدُ عليهم ".
ومن حديث عائشة كما في الصحيح، قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم عند أول نزول الوحي: " يا ليتني فيها جذَعاً، ليتني أكون حياً إذ يُخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أومخرجي هم؟! قال: نعم، لم يأت رجُلٌ قط بمثلِ ما جِئت به إلا عُودي، وإن يُدركني يومُكَ أنصُرك نصراً مؤزراً ".
وبالتالي كل من سار على درب ونهج النبي صلى الله عليه وسلم بحق لا بد له من أن يُخرجه قومه.. ويتعرض لبعض ما تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم من المعاناة والبلاء في سبيل الدعوة إلى الله.. والداعية الذي لم يحصل له شيء من ذلك - وبخاصة في زمن غلبة الطواغيت المجرمين وقوانينهم على الأمصار - فليراجع نفسه أين هو من دين الله، ومن منهج الأنبياء والرسل!!
(فإن ابتُليتَ فلا تدلَّ عليَّ)؛ أي إن عُرفت بدعوتك الجديدة ستتعرض للبلاء والأذى من قبل الطاغية الملك وجنده.. وإنهم سيسألونك عن مصدر علمك ودعوتك.. فاحرص أن لا تدل عليَّ؛ فإن عرفوا بي وبمكاني قتلوني.. لا لذنبٍ سوى أني أقول رب الله!
ظلم واضطهاد يتكرر.. كم هم الدعاة والشيوخ - في زماننا - الذين يقولون لتلامذتهم ولمن يلتقون بهم إن ابتليتم بالسجن في سجون الطواغيت الظالمين فلا تدلوا علينا!
(وكان الغلامُ يُبرئُ الأكمَه)؛ وهو الأعمى منذ ولادته (والأبرصَ ويُداوي الناسَ من سائر الأدواء)؛ وهذه من جملة الكرامات التي منَّ الله بها على الغلام؛ أنه كان يُداوي الناس من سائر الأدواء والأمراض، وهذا كله كان يحصل بإذن الله؛ إذ الشافي هو الله لا شافي إلا هو سبحانه وتعالى، وإنما كان الغلام عليه الدعاء وحسب.
هذه الكرامات التي منَّ الله بها على الغلام شهرت اسمه ودعوته بين الناس؛ حتى أصبح قِبلة - يُشد إليها الرحال - لكل مريض أو ذي عاهة ممن سمعوا به!
(فسمع جليسٌ للملِك)؛ من خاصة وزراء الملك وجلسائه ومستشاريه، بأمر هذا الغلام، وما يتحقق عليه يديه من شفاء وآيات، وعجائب، لم تتحقق على يد الطاغية الملك، ولا على يد ساحره الدجال!
هذا الرجل (كان قد عَمِيَ).
(فأتاه بهدايا كثيرةٍ، فقال: ما هاهنا لك أجمَعُ، إن أنت شفيتَني)؛ فظن الرجلُ أن الشافي هو الغلام، ولأجل ذلك جمع له الهدايا الثمينة مكافأة له إن هو شفاه!
ولكن الغلام المؤمن يُصحِّحَ له هذا المفهوم الشركي الخاطئ (فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي اللهُ)؛ فنفى عن نفسه خاصية الشفاء، وأثبت أن الشافي من كل مرض وداء هو الله تعالى وحده، وبالتالي من أراد أن يلتمس الشفاء فليلتمسه من الله وحده، وليسأل الله وحده لا أحد سواه سبحانه وتعالى، وهذا لا يتعارض مع قرع باب الأسباب، كما قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ** يونس: 107. وقال تعالى عن نبيه إبراهيم قوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ** الشعراء: 80.
فكم من مريض ركن على الأسباب ونسي الشافي الحقيقي فما نفعه الدواء ولا تلك الأسباب في شيء.. وكم من مريض قال - بقلب مقبل غير مدبر - يا الله.. ومن دون أن يتناول دواء.. فشفاه الله وعافاه!
(فإن أنت آمنتَ بالله دعوتُ اللهَ فشفاكَ)؛ وهذا من تمام ورع الغلام المؤمن؛ فهو لا يستغل ما منَّ الله به عليه من كرامات ونِعم لنفسه، أو لمصلحته الشخصية، أو من أجل أن يخصه الناس بالعطاء والهدايا.. أو الاستعلاء عليهم.. لا.. ليس شيء من ذلك أبداً.. وإنما من أجل أن يؤمنوا بالله تعالى وحده ويدخلوا في عبادته وتوحيده وطاعته.. فلا همَّ له سوى هذا الهم.. ولا مطلبَ له سوى هذا المطلب.. والمصلحة في ذلك كله مردودة عليهم.. فإن هم آمنوا بالله تعالى دعا اللهَ لهم بالشفاء!
وما أحوج دعاة العصر - الذين يمنُّ الله عليهم بنوع قبول - لمثل هذا التجرد والإخلاص!
مرة ثانية نجد أن الغلام المؤمن يكرر أن مهمته مقصورة على التوجه بالدعاء إلى الله، لا يتعدى ذلك، وأن الشافي هو الله تعالى وحده.. ليزيل بذلك تعلق العباد به.. وليصحح لهم اعتقادهم وتصورهم عن الجهة التي تُقصد بالدعاء والرجاء!
كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ** البقرة: 186. وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ** النمل: 62.
(فآمَنَ بالله)؛ بعدها مباشرة.. وما إن انتهى الغلام من دعائه (فشفاه الله)؛ وردَّ عليه بصرَه!
آية من آيات الله تحصل لهذا الرجل الأعمى يرى فيها برهان ربه.. تُغير مجرى حياته كلها.. وتُعمر قلبه بالإيمان واليقين..كان في الأمس جليساً للطاغية الملك.. ونصيراً له.. ومن مستشاريه ووزرائه المقربين.. واليوم ينقلب كلياً ليصبح أول رجل يقصد قصر الطاغية الملك ليصدع في وجهه ووجه حاشيته الضالة بالحق!
(فأتى الملِكَ فجلسَ إليه كما كان يجلسُ)؛ لكن في هذه المرة يُجالسه وهو مفتح العينين قد ارتدت إليه بصيرته، قبل بصره!
(فقال له الملِك: من ردَّ عليكَ بصرَكَ؟!)؛ وكان يتوقع منه أن يقول له: أنت.. أو ساحرك.. لأنه لم يكن يتوقع أن يسمع من يقول من حاشيته أو من أحد من عامة شعبه.. أن هناك رباً آخر ينفع ويضر غير الطاغية الملك.. كطواغيت العصر تماماً؛ حيث تراهم يحبون منك أن تمدحهم وتُطريهم بأوصاف وألقاب ومدائح ليست فيهم في شيء.. وهم مع علمهم أنك تكذب عليهم، وأنك تطريهم بالكذب فأنت أحب إليهم من أن تنقدهم بالحق والصدق.. وأنت أقرب إليهم مجلساً ممن ينصحهم، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر!!
(قال: ربي)؛ فنزلت كالصاعقة على رأس الطاغية.. وبخاصة أنه لم يقل له أنت.. أو جلالتكم، وفخامتكم!
(قال: ولك ربٌّ)؛ يجلب النفع ويكشف الضر.. وترجع إليه في جميع شؤون حياتك الخاصة والعامة (غيري؟!).
أنا ربكم الأعلى.. وما علمت لكم من إله مطاع ترجعون إليه غيري.. وهذا تمرد وجحود، وخروج عن الطاعة والشرعية.. وهو أمر لا يُطاق ولا نسمح به!!
(قال: ربِّي وربُّك الله)؛ قالها متحدياً بملء فيه، وبكل شجاعة وثبات ورباطة جأش.. وهو الذي لم يمض على إيمانه سوى سويعات: ربي وربُّك الله.. فما أنت إلا عبد مخلوق ضعيف.. لا تملك نفعاً ولا ضراً.. ومن يصور لك من سحرتك وحاشيتك غير ذلك فهو يكذبك ولا يصدقك.. فلا يصدنَّك جاهك وسلطانك عن رؤية الحق.. ومعرفة الحقيقة المطلقة.. فربي وربك ورب الخلق أجمعين هو الله سبحانه وتعالى.. لا رب لهذا الكون سواه!
فالرب الذي يستحق أن يُعبد بحق دون أحدٍ سواه.. هو الله تعالى وحده.. هو الخالق الذي بيده الأمر كله.. وليس أنت!
كلمة حق مدوية أطلقها في وجه ذلك الطاغية الجبار.. هزَّت أركانه وكبرياءه.. قد نستسهل قراءة أحرفها.. لكننا لو تصورنا مشاهدها ووقائعها.. وتبعاتها.. وعشناها بمشاعرنا.. لأدركنا صعوبة الموقف.. وعظمة هذا الرجل المؤمن الذي ملأ الإيمان قلبه وكيانه، وهو الذي لم يمض على إيمانه سوى سويعات قلائل!
يصدع بالحق في وجه ذلك الطاغية الملك.. مع علمه المسبق أن كلمته هذه ستكلفه الكثير الكثير!
(فأخذه)؛ بعيداً عن البلاط الملكي المخصص للحاشية وللمراسيم الملكية.. إلى حيث الزنازين تحت الأرض المخصصة لتعذيب المارقين عن طاعة الطاغية، ليُذيقه ألوناً من صور العذاب التي لا تُطاق!
(فلم يزَل يُعذِّبُه)؛ ويُمعن في تعذيبه لكي يدله على مصدر تلك الكلمات الإيمانية.. ومن أسمعه إياها أو دله عليها.. فليس في رعية الطاغية من يقول هذه الكلمات.. والرجل كان من حاشية الملك المقربين فلا يُعرف عنه ولا عن حاشيته من يمكن أن يقول مثل هذه الكلمات.. ثم هذه الكلمات حوربت وقُضي على أهلها منذ عقود.. كما كان يظن الطاغية.. فمن أين لهذا الرجل الأعمى الذي لم يُبصر إلا قبل سويعات أن يقول مثل هذه الكلمات.. لا بد أن هناك شخصاً خطيراً متخفٍّ قد نفد من الاستئصال والقتل.. يردد مثل هذه الكلمات بين عامة الناس.. وجند الطاغوت ومخابراته وجواسيسه لا يعرفونه.. لذا لا بد أن يعترف عليه قبل أن يستفحل خطره وشره على عرش ونظام الطاغية الملك.. فظل يُعذبه ويُعذبه (حتى دلَّ على الغلام)؛ مصدر تلك الكلمات بالنسبة إليه!
فأرسل الملك - على وجه السرعة - جنده وعيونه ومخابراته يتحسسون أخبار ومكان الغلام ليحضروه إليه.. وقبل أن يُفسد عليه رعيته!
(فجيء بالغلام)؛ الإرهابي الذي أرهب وأخاف طغيان وجبروت الطاغية الملك.. وأفسد عليه حياته ونظامه!!
(فقال له الملِك)؛ مستخدماً معه أسلوب الترغيب والرقة لعله يستجيب له، أو يستحي منه، فيجيبه إلى ما يريد (أي بُني!)؛ فنسبه لنفسه؛ وكأنه واحد من أبنائه.. وهذا غاية في المكر والدهاء، كما يفعل طواغيت العصر تماماً مع من يطمعون به - ممن يقع في شباكهم - أن يكون لصفهم، وعيناً لهم على أعدائهم!
(قد بلَغَ من سحركَ ما تُبرِئُ الأكمَهَ والأبرصَ، وتفعلُ وتفعل)؛ أي أن هذا الذي تفعله من إبرائك للأكمه والأبرص وغير ذلك إنما هو بفضلنا؛ فنحن الذين علمناك السحر.. وفضلنا عليك سابغ وسابق.. وبالتالي كان لا بد لك من أن ترد الفضل لنا، لا لغيرنا!
(فقال)؛ الغلام المؤمن الذي امتلأ كيانه كله بالإيمان واليقين.. وشخص كهذا أنَّى يهزه عن مواقفه الإيمانية ترغيب وترهيب الطواغيت الظالمين.. قال للطاغية الملك: بكل ثقة وثبات ويقين وعِزَّة، ورباطة جأش.. غير آبه بترغيب ولا ترهيب!
(إنِّي لا أشفي أحداً؛ إنما يشفِي اللهُ)؛ مرة ثانية يصحح الغلامُ المؤمن المفهوم الخاطئ عند الطاغية الملك.. فأنا لا أشفي أحداً.. وهذا الذي أقوم به ليس من عند نفسي.. وليس من تلك المهارات التي اكتسبتها من ساحرك الدجال.. وإنما الشافي هو الله وحده.. يشفي من يشاء من عباده.. لا راد لقضائه وحكمه.. والفضل فيما أقوم به لله وحده.. وليس لك.. ولا لغيرك!
فما إن سمع الطاغية من الغلام تلك الكلمات المليئة بالإيمان والعزة، والاستعلاء على الباطل.. إلا وأيقن أن أسلوب الترغيب لا يجدي نفعاً مع هذا الغلام.. وأنه غلام متطرف لا يجدي الحوار معه نفعاً.. لذا لا بد من اعتماد أسلوب آخر معه؛ يقوم على العنف والبطش والتعذيب!
(فأخذَهُ)؛ بعيداً عن البلاط الملكي الذي يجلس فيه الملك لاستقبال الوفود وتوديعها إلى حيث غرف التحقيق والتعذيب المخصصة لذلك!
والشبهة التي دارت حول الرجل الأعمى من حاشية الملك، والذي آمن.. هي نفسها دارت حول الغلام.. فمن أين لهذا الغلام بمثل هذه الكلمات، وهو لا يزال في مقتبل عمره.. وقد تربى ونشأ في قصر الملك على يد ساحره.. إذاً المصدر الحقيقي لتلك الكلمات لا يزال متخفياً عن الملك وجنده.. ولا بد أن الغلام يعرف عنه شيئاً!!
(فلم يَزل يُعذِّبُه حتى دلَّ على الرَّاهبِ)؛ مصدر تلك الكلمات الإيمانية.. فأرسل الملكُ - على وجه السرعة - جنده وعيونَه لكي يأتوه بالشيخ الراهب!
(فجيء بالراهب)؛ مكبلاً بالقيود والسلاسل إلى حضرة ومجلس الطاغية الملك!
(فقِيل له: ارجع عن دينِك)؛ ولم يُعذَّب - كما حصل للغلام والرجل الذي آمن - لكي يدل على غيره؛ لأنه تبين للطاغية وجنده أن الراهب كان عالماً بدين الأنبياء والرسل، والكتب التي أنزلت عليهم.. وهو من البقية الباقية الذين نجوا من المجازر الجماعية التي أقامها الملك بحق المؤمنين.. وبالتالي فهو مصدر تلك التعاليم والكلمات التي سمعها الملك من الغلام!
لذا كان الطلب محدداً (ارجع عن دينِك)، وادخل في دين الطاغوت.. وموالاته وطاعته.. وإلا قتلناك.. لا حياة ولا وجود لأحد بيننا ينكر ألوهية وربوبية الطاغية الملك!
ولكن أنَّى لشيخ مطارد بدينه منذ عقود.. لا ذنب له سوى أنه يقول ربي الله.. والإيمان قد ملأ عليه قلبه وجوارحه.. أن يرجع عن دينه.. ويجيبهم إلى ما طالبوه به!
(فأبى)؛ إباء المؤمن المستعلي بإيمانه.. أن يكفر بالله.. ويدخل في دين وطاعة وموالاة الملِك.. فكان رد الطاغية عليه!
(فدعا بالمئْشارِ)؛ أي المنشار الذي تُنشر به الأخشاب.. لكن هذه المرة ليُنشر به جسد الشيخ المؤمن!
(فوضع المئشار على مَفْرِقِ رأسه)؛ أي وسطه.. وبدأ ينشر فيه (فشقَّه حتى وقع شِقَّاهُ) على الأرض!!
هذا جزاء من يؤمن بالله ويكفر بالطاغوت.. في شريعة الطواغيت الظالمين!
جميع الطواغيت - من قبل ومن بعد - يختلفون فيما بينهم.. إلا أنهم يجتمعون ويتفقون فيما بينهم على العقوبة التي ينبغي أن تنزل فيمن يكفر بألوهيتهم
وربوبيتهم، وحقهم في استعباد العباد واستملاك البلاد.. ويؤمن بالله تعالى وحده!
لا حياة ولا وجود ولا قرار لمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله.. كما قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ** البقرة: 217. وقال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ** الأعراف: 88.
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ** إبراهيم: 13. كل الذين كفروا.. قالوا لكل الرسل ومن دون استثناء.. ولمن آمن بهم واتبعهم.. {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا**.
واليوم تأملوا موقف الطواغيت الظالمين - كل الطواغيت! - من شباب التوحيد الذين كفروا بالطاغوت.. وبخاصة طاغوت العصر.. وآمَنوا بالله وحده.. تجد الشباب بين طريد مختبئ أو سجينٍ يُعذَّب، أو شهيد.. وما قصة الغلام المؤمن ومن معه من فتية آمنوا بربهم.. الذين تواريهم جبال وكهوف أفغانستان عن أعين الطواغيت الظالمين وجنودهم... عنا وعن مسامعنا ببعيد..
إنها سنن الطواغيت الظالمين التي تتكرر في كل زمان ومكان.. ولا حول ولا قوة إلا بالله!
(ثم جِيء بجليسِ الملِك)؛ من حَبْسِه.. فلا مبرر لحبسه وسجنه.. بعد أن عُرِفت الخلية بكاملها.. وعُرفت عناصرها.. وقُضي على مؤسسها الراهب.. إذ كان من الممكن الرجوع إليه وإلى ما يعرف من معلومات خلال عملية البحث عن صاحب ومصدر تلك الكلمات والتعاليم.. أما والأمر قد انتهى وعُرف كل شيء فلا حاجة إلى بقائه في السجن.. وبالتالي لا بد من عرضه على الاختبار ليختار.. إما أن يرجع عن دينه ويدخل في دين وطاعة الملِك.. وإما القتل.. وكما قُتل الشيخ الراهب!
(فقيل له: ارجعْ عن دينك)؛ عن عبادة الله وحده.. وادخل في عبادة وطاعة الملك الطاغية!
(فأبَى)؛ مستعلياً بإيمانه.. مؤثراً لآخرته على دنياه ودنيا الترف في بلاط الملِك.. وهو الذي لم يمض على إيمانه.. ولم يستقر إيمانه في قلبه.. سوى أيامٍ معدودات!
(فدعا بالمئشار، فوضع المئشار على مَفرِقِ رأسه، فشقَّه به حتى وقعَ شِقَّاه)؛ نفس الأسلوب الذي قُتل فيه الراهب؛ إمعاناً في التشفي والتعذيب، ولكي يكون عبرة وعِظة لمن سيأتي بعده، وكل من تُحدثه نفسه بالإيمان بالله تعالى.
(ثم جيء بالغلام)؛ من سجنه ومحبسه.. فهو آخر أفراد الخلية المؤمنة.. إذا قضى الساحرُ عليه وقتلَه، يكون قد استراح من بقايا المؤمنين في مملكته!
(فقيل له: ارجع عن دينِك)؛ أكفر بالله العظيم.. وبعبادته.. وادخل في دين وعبادة الطاغية الملك.. نفس الخيار ونفس المطلب الذي عُرِض على الراهب وجليس الملك من قبل.. إذ لا مطلب آخر عند الطاغوت.
فالطاغوت يُحاور ويؤمن بالحوار.. لكن لا يرضى أن يخرج الحوار عن هذين المحورين والخيارين: إما الكفر بالله والدخول في الإيمان بالطاغوت وعبادته.. أو القتل والإبادة.. إذ لا يوجد خيار ثالث!
نفس طواغيت العصر إذ نسمعهم مراراً يصرحون وبكل صراحة ووقاحة: إما معنا وتدخل في ديننا ونظامنا.. وإما ضدنا ولك الحرب والقتل حينئذٍ.. هؤلاء الإرهابيين.. الذين خرجوا على الطاغوت.. لا حوار معهم إلا من خلال البندقية والسلاح.. ولو أرادوا الحوار فهذا مطلبنا وشرطنا؛ إما أن يرجعوا عن دينهم ويدخلوا في دين الطاغوت.. وطاعته وموالاته.. فحينئذٍ نسمح لهم في البقاء والحياة.. وإن أبوا فليس لهم عندنا سوى القتل والتشريد والإبادة!
(فأبى)؛ أن يجيب الطاغية الملِك إلى مطلبه وعبادته.. وأبى إلا أن ينحاز وبكليته إلى خيار التوحيد، وعبادة الله عز وجل وحده.
كان الطاغية يتوقع من الغلام أن ينهار ويتراجع عن دعوته، وبخاصة بعدما رأى - أو علم - الطريقة البشعة التي قُتِل بها الرجلان الصالحان: الراهب، وجليسُ الملك!
لكن خاب فأله وظنه؛ فوجد الغلام أصلب عوداً وأكثر ثباتاً، وأجلد على تحمل البلاء.. وأعمق إيماناً ويقيناً بدعوة التوحيد!
(فدفعَه إلى نفرٍ من أصحابهِ)؛ وهذا يفيد بأن الطاغية الملك قد استنفد جميع طاقاته ووسائله في قتل الغلام المؤمن داخل قصره، فلم يقدر عليه، ولم يجعل الله له عليه سلطاناً أو سبيلاً.. فظن الطاغية أن الذي يمنعه منه هو ما تعلمه من السحر.. مما اضطره إلى أن يستعين بجنده، لكي يقتلوه خارج قصره.. إن لم يرجع عن دينه.. ويدخل في دين الملك.. وبطرق يستحيل للسحر أن يكون له عليها أي أثر!
(فقال: اذهبوا به إلى جبلِ كذا وكذا، فاصعدُوا به الجبلَ، فإذا بلغتُم ذروتَهُ)؛ أي أعلاه، فاعرضوا عليه من جديد أن يرجع عن دينه، فلعله بعد أن يرى ارتفاع الجبل وهول ما سيؤول إليه يرجع عن دينه، ويُغير رأيه وموقفه.
(فإن رَجعَ عن دينه)؛ وهو الخيار الذي يريده ويتمناه الطاغية؛ لأن في تراجع الغلام عن دينه ودخوله في دين الطاغية.. منفعة للطاغية ونظامه أكثر من قتله وهو على دين وعقيدة التوحيد.. فعلى الأقل يضمن لدعوته الفشل بين الناس.. لأن سقوط الداعية في أحضان الطواغيت الظالمين مؤداه ولا بد إلى سقوط دعوته.. وانعدام أثرها على الناس.. وإيجاد حاجز نفسي كبير بين الدعوة - مهما كانت صواباً - وبين المدعوين.. لذا نجد الطواغيت عبر جميع العصور والأزمان يحرصون أشد الحرص على فتنة الدعاة عن دينهم ودعوتهم بكل الوسائل والسبل الترغيبية والترهيبية ليبطل أو يضعف أثر دعوتهم في أنفس الناس وبخاصة أتباعهم.. لو كانوا دعاة العصر يعلمون!
(وإلا فاطرَحُوه)؛ فإن لم يرجع عن دينه فاطرحوه من على الجبل أرضاً ليلقى مصيره، جزاء جحوده لربوبيتي وألوهيتي!
| |
|
Admin المدير العام للمنتدى
عدد المساهمات : 72 تاريخ التسجيل : 02/10/2011 العمر : 34 الموقع : Tuniprograms.Forumarabia.com
| موضوع: رد: الغلام والملك الإثنين أكتوبر 24, 2011 2:17 pm | |
| [center] [center](فذهبوا به، فصَعدُوا به الجبلَ)؛ وعرضوا عليه الذي طالبهم به الملك.. فأبى الغلام أن يُجيبهم إلى ما سألوه إياه وطالبوه به.. فهموا برميه وطرحه من على الجبل أرضاً!
(فقال: اللهمَّ اكفنيهم بما شِئتَ)؛ فالتجأ - بقلب خالصٍ مطمئن واثق - بالدعاء إلى الله تعالى وحده.. لمن بيده الملك وهو على كل شيء قدير.. وسأله بأن يدفعهم عنه، ويدفع عنه الشر الذي قصدوه به.. بالكيفية والطريقة التي يشاؤها الله سبحانه وتعالى.. وهذا من تمام فقه وأدب الغلام إذ يُفوض الأمر لله تعالى ليكفيه إياهم بما شاء وكيف شاء.
فأمَرَ اللهُ الجبَلَ، وهو من ملكه وجنده وممن خلق.. (فرجَفَ بهمُ الجبلُ)؛ فماد واهتز (فسقطُوا)؛ على الأرض، فماتوا.. ونجَّى اللهُ الغلامَ! آية من آيات الله يُعَزُّ ويُنصَرُ بها التوحيدُ وأهله.. ويُذَلُّ ويُخزَى بها الشركُ وأهله.
(وجاء يمشي إلى الملكِ)؛ فللغلام رسالة لا بد أن يؤديها؛ وهي أن يأطر الملك وحاشيته، ورعيته إلى عبادة الله وحده.. والبراء والانخلاع من جميع ضروب الكفر والشرك.. يريد أن يخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد وحده.. ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام!
لم يتوارَ.. وكان يستطيع أن يفعل.. وإنما جاء يمشي إلى الملك متحدياً طغيانه وجبروته وظلمَه.. ليصدع في وجهه وفي قصره، وأمام حاشيته وزبانيته وجلاديه.. بالحق!
قد هانت الدنيا على الغلام.. ورخُصت نفسه في الله.. وصَغُرَ الطاغوت في عينه.. وكأنه - في عينه - قد البعوضة وأحقر!
(فقال له الملك)؛ مندهشاً ومبهوراً من هول ما يرى.. الغلام لم يمت.. ولم يُقتَل!
(ما فعَلَ أصحابُكَ؟)؛ فقد أرسلتهم بمهمة قتلك برميك من على الجبل.. فماذا فعلوا.. وما الذي حصل؟!
(كفانيهِمُ الله)؛ بهذا الجواب المليء بمعاني الإيمان والتوحيد.. يرد الغلام على الطاغية (كفانيهِمُ الله)؛ فالله هو الذي كفانيهم.. ولست أنا بمهاراتي.. وليس السحر الذي تعلمته من ساحرك المشعوذ كما كنت تظن.. وإني لأرجو أن يكون في ذلك آية لك تعيدك إلى الحق.. والرشد والصواب!
فماذا كان رد الطاغية.. بعد أن رأى كل هذه الآيات الباهرات؟!
(فدفَعَه إلى نفرٍ من أصحابِه)؛ لم ييأس.. مرة ثانية يريد أن يعيد التجربة.. عسى أن ينجح في قتل الغلام والقضاء على دعوته!
طغيان مغلظ ومركب.. مثله في كتاب الله، قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ**.
لكن ما طبيعة تجربته هذه المرة.. ففي التجربة الأولى جرب قتل الغلام في البر فلم يُفلح.. ووجد أن البر وجباله عليه.. فما العمل؟! لم يبق أمامه سوى أن يجرب البحر!
(فقال: اذهبوا به فاحملُوه في قُرْقُورٍ)؛ وهو القارب أو السفينة الصغيرة، (فتوسَّطوا به البحرَ)؛ بحيث لا يقدر - لو حاول - على الوصول إلى الشاطئ بمفرده.. واعرضوا عليه أن يرجع عن دينه!
(فإن رجَعَ عن دينِه)؛ فكفَرَ بالله العظيم.. ودخل في دين الطاغية وعبادته، (وإلا)؛ فإن لم يفعل.. (فاقذِفُوه) وألقوه في البحر!!
(فذهبوا به)؛ إلى حيث أمرَهم الملك.. وعرضوا على الغلام ما أوصاهم به.. فأبى الغلامُ إلا أن يستعصم بالإيمان.. فأرادوا أن يقذفوه في اليم!
(فقال: اللهمَّ اكفنيهم بما شِئتَ)؛ أي ادفعهم، وادفع أذاهم عني بما شئت وكيف شئت.. فأجابَ اللهُ دعاءه!
فهاج وماج بهم البحر (فانكفأت بهم السفينة)؛ فانقلبت، فأصبح عالِيُها سافِلَها، وسافِلُها عالِيَها.. (فغَرِقُوا)؛ في البحر وماتوا.. ونجَّى اللهُ الغُلامَ!
الله أكبر.. آية أخرى يُظهرها الله على يد هذا الغلام المؤمن.. يقذف الله بها الباطل المنتفش فيدمغه!
(وجاءَ)؛ الغلام مستعلياً بإيمانه.. معتزاً بخالقه وربه.. وقد زادته هذه الآية إيماناً على إيمان.. ويقيناً بأن نصر الله لدينه آتٍ ولو كره المجرمون الكافرون!
(يمشي إلى الملِك)؛ ليقابله ويتحداه في قصره وأمام حاشيته وزبانيته.. لا يخشى في الله لومة لائم.. ليكمِل رسالتَه مع الطاغيةِ الملِك.. ويُريَه ما فعل الله بجنده وأصحابه.. وليقول له مرة ثانية: أنت أردت شيئاً، والله تعالى أراد شيئاً آخر.. فكان ما أراده الله سبحانه وتعالى.. ولن يكون في هذا الكون الفسيح إلا ما يريده الله تعالى!
(فقال له الملِك)؛ مندهشاً ومبهوراً لا يكاد أن يصدق ما تراه عيناه.. للمرة الثانية يرسل جنده مع الغلام ليقتلوه.. لكن الغلام لا يزال حياً.. إنه لم يمت.. ولم يُقتَل.. قد عجَزتُ عن قتله رغم ضَعفه وصِغَر سنه.. وأنا حولي الجند.. وأملك القوة والسلاح!
(ما فعَلَ أصحابُكَ)؛ الذين أرسلتهم في مهمة قتلك وإغراقك في اليم.. وأين هم؟!
(قال: كفانِيهُمُ اللهُ)؛ ردهم الله وأذاهم وشرَّهم وما نويتَ فعله بي.. عني.. وارتد مكرهم وكيدهم على أنفسهم فماتوا وغرقوا.. {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ**.
هنا أدرك الطاغية عجزه.. وأنه لا سلطان له على الغلام.. وأنه مهما حاول أن يقتله فلن يستطيع قتله.. وأنه محفوظ بيد قاهرة تعلو ولا يُعلى عليها!
فأصاب الطاغيةَ همٌّ كبير.. إنَّ عجزه هذا يعني زوال ملكه وسلطانه.. على يد غلام ضعيف.. ويعني انصراف العباد عن عبادته وطاعته.. إلى عبادة الله الواحد الأحد!
(فقال للملِك: إنَّك لست بقاتلي حتى تفعلَ ما آمُرُكَ به)؛ يؤكد الغلام هنا للملك عجزَه.. وأنه لا سلطان له عليه.. وأنه إن أراد قتله لا بد أن يلتزم بما يأمره به!
يا سبحان الله.. من قبل كان الملِكُ الطاغية هو الآمر الذي لا يُرَدُّ له أمر.. واليوم أصبح هو المأمور.. وعدوه هو الآمر.. سبحان الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء!
(قال: وما هو؟!)؛ يسألُ الملكُ الغلامَ متلهفاً.. يريد أن يعرف الحل.. وكيفية الخلاص مما هو فيه من حرج شديد أمام حاشيته ورعيته.. وبأي ثمن كان!
كيف يستطيع أن يُقنع رعيته بأنه ربهم وإلههم المعبود.. ثم هو لا يستطيع أن يقتل غلاماً ضعيفاً مجرداً من السلاح، ومن جميع الأسباب المادية الأرضية؟!
لذا فهو مستعد أن ينفذ أي طلب يُطلب منه.. مقابل أن يُقتل الغلام.. ويستريح منه ومن دعوته!
(قال: تجمَعُ الناسَ في صعيدٍ واحدٍ)؛ أي في موقف واحد.. وعلى أرض بارزة ناشزة ليتسنى لهم رؤية ما سيحصل.. (وتَصلُبُني على جِذعٍ، ثم خُذ سَهماً من كِنانتي)؛ وهي الجعبة التي توضع فيها السهام، (ثم ضع السَّهمَ في كَبِدِ القوسِ)؛ أي في وسطه، موضع المقبض عند الرمي، (ثم قُل: باسم الله ربِّ الغلام، ثم ارمِني)؛ إنك إن فعلت ذلك - كما أمرتك ومن دون أن تُنقِص شيئاً - قتلتني.. وإلا مهما حاولتَ فإنك لن تستطيع قتلي!!
فما كان من الملِك إلا أن فعَل كل ما أمره به الغلام.. فهو يريد الخلاص منه بأي ثمن.. وقبل أن يفرط عليه عقد ملكه وحكمه.. وبالتالي فهو لا يتردد عن فعل أي شيء يؤدي إلى قتل الغلام، والخلاص منه، ومن دعوته، وكلماته!
(فجمَعَ الناسَ في صعيدٍ واحدٍ، وصلبَهُ على جِذعٍ، ثم أخذَ سَهمَاً من كِنانته، ثم وضَعَ السَّهمَ في كَبِدِ القوس، ثم قال: باسمِ اللهِ، ربِّ الغُلام)؛ الله أكبر.. هاهو الطاغية الجبار الذي زعم زوراً وكذباً الربوبية والألوهية لنفسه من دون الله عز وجل.. ينطقها مرغماً رغماً عن أنفه وكبريائه وجبروته، وبصوت يسمعه منه جميع من حضر من الناس.. باسم الله، ربِّ الغلام.. هذه الكلمة التي كان يقتل ويُطارد، ويُجرِّم كل من يتلفظ بها.. فهاهو ينطق بها ويُصرح بها أمام الجميع!!
(باسم اللهِ، ربِّ الغُلام)؛ إعلان صريح من قِبَل الطاغية الملك - وأمام جميع الناس - عن عجزه قتل الغلام.. لذا فهو إذ يقتله يقتله باسم الله الذي خلق الغلام.. يقتله باسم ربِّ ومعبود الغلام؛ الذي لا معبود في الوجود بحقٍّ سواه!
(باسم اللهِ، ربِّ الغلام)؛ تعني استئذان الخالق في قتل الغلام.. فالغلام عبد لله عز وجل.. وهو من ملكه.. ومن جملة من خلق.. وهو الذي وهبه الحياة.. وهو الذي يسلبها منه.. متى شاء.. لذا لا بد من استئذانه في قتل الغلام.. واستئذانه سبحانه وتعالى أن يقول الطاغية الملِك: باسم الله، ربِّ الغلام.. فإن لم يستأذن الخالقَ سبحانه وتعالى بهذه المقولة بجميع أحرفها.. لا يمكن للطاغية.. ومعه جميع قوى الأرض.. أن يقتلوا الغلام!
هذه الرسالة.. بهذا الوضوح.. وصلت إلى جميع من حضر من الناس!
(ثم رماه، فوقَعَ السَّهمُ في صُدْغِه)؛ وهو موضع ما بين العين والأُذن، (فوضعَ يدَهُ في صُدْغِه في موضعِ السَّهمِ، فماتَ)؛ مات الغلامُ ليحيي أمةً استعبدها الطاغوت لنفسه وأهوائه وشهواته منذ عقود.. ليُحيي أمة استعبدها الجهل، والخوف، والفقر!!
مات الغلام.. ليُخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد.. ومن جَور الأديان إلى عَدل الإسلام.
ما أجمل وأحلى الموت عندما يكون سبباً في إحياء أمةٍ من الأمم أو شعبٍ من الشعوب استعبدها الخوف من الطاغوت!
فإن قيل: أو موت الغلام فيه حياة للناس.. وكيف؟!
أقول: نعم، انظروا.. ماذا حصلَ بعد أن مات الغُلام رحمه الله!
(فقال الناسُ: آمنَّا بربِّ الغُلام، آمنَّا بربِّ الغُلام، آمنَّا بربِّ الغُلام)؛ هتاف متكرر يخرج من جميع الناس ممن حضروا وشاهدوا المشهد، وفي وقت واحد.. غير آبهين للطاغوت وجنده.. آمنَّا بربِّ الغُلام.. آمنَّا بربِّ الغُلام.. ومن لوازم الإيمان بربِّ الغلام الكفر بالطاغوت والبراء منه!
أليست حياة أن يخرج الناس من عبادة الطاغوت.. وأشياء هي أحط منهم قدراً وشأناً.. إلى عبادة الخالق سبحانه وتعالى.
أليست حياة أن يتحرر الناس من عقدة الخوف من الطاغوت ومن جند الطاغوت.. لينطلقوا في حياتهم الدنيا بكل إيمانٍ وثبات، وأمان، وهمَّة وأمل.. نحو أهدافهم التي خلقهم الله لأجلها؟!
أليست حياة أن يتحرر الناسُ من الجهل.. ومن سِحر السَّحرة المخادعين.. ليكونوا في جميع شؤون حياتهم على علم وبصيرة من أمرهم.. ويرون الأشياء على حقيقتها وواقعها!
أليست حياة أن يتساوى جميع الخلق في موقف العبودية لخالقهم.. لا فرق ولا فضل بين سيد ومسود، ولا بين جنس وجنس، أو قوم وقوم، أو لون ولون.. إلا بالتقوى وما كان من أحدهم من عملٍ صالح؟!
أليست حياة.. عندما يعيش الناس وفق مشيئة الله وحكمه الشرعي.. بدلاً من أن يعيشوا حياتهم وفق مشيئة وحكم وشرائع الطاغوت؟!
هذه الحياة الكريمة بصفاتها الآنفة الذكر - مهما قَصُر أجلها - فهي أفضل بكثير من حياة - مهما طال أجلها - يسودها الخوف، والذل، والخنوع، والجهل.. وعبادة الطاغوت!
(فأتى الملِكُ، فقِيل له: أرأيتَ ما كنتَ تحذَرُ؟)؛ أي ما كنت تخشاه أن يقع؛ وهو أن يؤمن الناس برب الغلام ويكفروا بك، وبألوهيتك وربوبيتك (قد والله نزَلَ بكَ حذَرُكَ)؛ أي الذي كنت تخشاه وتحذره قد وقع وحصل، (قد آمنَ الناسُ)؛ قد آمنوا برب الغلام.. وكفروا بك وبنظامك، وقوانينك، وطريقتك!
فماذا كان رد الطاغية على هذا التمرد.. وخروج الناس عن طاعته وعبادته؟!
(فأمرَ بالأخدود)؛ أي أمر جنده وزبانيته بحفر الأخدود؛ وهو الشق العظيم المستطيل، الواسع في العَرض، البعيد في العُمق، (في أفواه السِّكَكِ)؛ أي في أفواه ومقدمات الطرق، (فخُدَّت)؛ فحُفِرت وجُهِّزَت كما أمر الملك الطاغية، (وأضرَمَ) فيها (النيران)؛ لتشتعل، وتمتد بألسِنَة اللهب أمام أعين الناس!!
لماذا هذه الإجراءات الإرهابية كلها؟!
(ومن لم يَرجِع عن دينهِ فأَحْمُوه فيها، أو قِيل له: اقتحِم)؛ أي من لا يرجع عن دينه؛ فيكفر بالله تعالى، ويؤمن بالطاغوت.. فأقحموه النار، ليشتعل جسده فيها.. لا يستحق الحياة من يكفر بالطاغوت، وبنظامه وقانونه، وطريقته في الحياة!
هذا هو خيار الطواغيت الظالمين عبر تاريخهم كله وإلى يومنا هذا؛ فمن لم يرجع عن دينه الإسلام.. ويدخل في دين الطاغوت وقانونه ونظامه، فعقوبته - في شريعة الطاغوت - القتل والتحريق، وارتكاب المجازر والمحارق الجماعية!
ما أكثر الشواهد المعاصرة على هذا النوع من الإجرام لو أردنا الإحصاء.. لو أردنا أن نستطلع المجازر والمحارق الجماعية التي حصلت للمسلمين على أيدي الطواغيت الظالمين وزبانيتهم.. في فلسطين ولبنان.. وفي سورية.. وفي أفغانستان.. وفي الشيشان.. وفي البوسنة والهرسك.. وفي العراق.. ولعل آخر المجازر والمحارق الشاهدة على هذا النوع من الإجرام ما ارتكبه الطاغوت الأمريكي الصليبي بحق المسلمين في مدينة الفلوجة العراقية!
هذه هي طريقتهم في الحوار.. وهذا هو منطقهم.. وهو منطق المفلس الذي لا يملك رصيداً من الحقائق والعدل الذي يمكنه من الحوار مع الأطراف الأخرى، أو الصمود الحضاري الأخلاقي أمامهم.. فيلجأ إلى عمليات التصفية والإلغاء، والإبادة، والمجازر والمحارق الجماعية!
(ففعلوا)؛ أي ففعل الجند كل ما أمرهم به الطاغية.. وهم بذلك شركاء الطاغوت في إثم ووزر كل ما قام ويقوم به من جرائم ومظالم بحق العباد.. فلولا الجند لما استطاع أن يفعل الطاغوت شيئاً، لذا فهم شركاء في الوزر والإجرام، وبعضهم من بعض، كما قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ**.
وفي ذلك عِظَة لجنودِ طواغيت العصر.. أداة الظلم والبطش.. الذين يحسبون أنفسهم على خير.. وهم في الحقيقة على شر وخطر عظيمين.. لو كانوا يعلمون!
(حتى جاءت امرأةٌ ومعها صبيٌّ لها)؛ صبيٌّ رضيع لم ينطلق لسانُه بالكلام، ولم يُفطم بعد، (فتقاعست أن تقع فيها)؛ فتوقفت ولزمت مكانها وموضعها.. فلم تلقي بنفسها في النار.. لعل جند الطاغوت - في تلك اللحظة - ظنوا أن المرأة قد ترجع عن دينها رحمة بطفلها ورضيعها.. إنه لموقف صعب وشديد.. قد لا يُقَدِّرُ قَدْرَه أحدٌ كالأمهات؛ لأنهن يعلمنَّ ماذا يعني الطفل الرضيع بالنسبة للأم.. فالأم قد تَرخُص نفسها عليها.. لكن من الصعب أن يرخص عليها طفلها الرضيع، فتلقيه بنفسها في النار!
لكنه خيار بين الانتكاس من جديد في أوحال الكفر والشرك وعبادة الطاغوت.. وإنه لخيار صعب وكريه على من ذاق طعمَ الإيمان.. وبين الإيمان الذي يُحتم عليها أن تلقي بنفسها ورضيعها في النار.. فتقاعست المرأة وحق لها أن تتقاعس؛ فهو اختبار أقوى منها بكثير، وهي التي لم يمض على إيمانها سوى سويعات معدودات.. فإنها بحاجة ماسة لمغيث يغيثها ويزيد من إيمانها ويقينها.. بحاجة إلى آية تجرئها على أن تُلقي بنفسها ورضيعها في النار.. وهي في هذا الموقف العصيب؛ الطاغية وجنده ينظرون إليها ماذا ستفعل وماذا ستختار.. والمسلمون المؤمنون من جهة ينظرون إليها ماذا ستفعل وماذا ستختار.. وهي من جهة تُقلب وتُردد نظرها بين طفلها الرضيع وبين الأخدود الذي أمامها والممتلئ ناراً.. نداء العاطفة الجامحة يقول لها طفلك الرضيع ما ذنبه.. ونداء العقل والقلب يقول لها أنت على حق فلا ترجعي عن دينِك!!
وهي في هذا الموقف العصيب الشديد.. يُغيثها الله تعالى بآية عظيمة.. تبهر الجميع.. تزيد المؤمنين إيماناً وثباتاً ويقيناً بالحق الذي هم عليه.. وما أحوجهم في ذلك الموقف العصيب إلى تلك الآية.. وتزيد الكافرين المجرمين - برفضها والإعراض عنها - كفراً وإجراماً.. (فقال لها الغلام: يا أُمَّه اصبري، فإنَّك على الحقِّ)؛ الله أكبر.. الله أكبر.. أنطق الله الطفلَ الرضيع بالحق وبالخيار الذي يجب على أمه أن تختاره وتستسلم له.. وبصوت سمعه جميع من حوله (اصبري، فإنَّك على الحق)، اصبري يا أماه فإنك على الحق الذي يُحبه الله تعالى ويرضاه.. فما هي إلا لحظات وتخرج أرواحنا من جسدها.. لتعود إلى بارئها وخالقها.. ليجزيها أحسن وخير الجزاء.. نعيم مقيم دائم؛ فيه مالا عين رأت.. ولا أذنٌ سمعت.. ولا خطر على قلب بشر.. والأعظم من ذلك كله رضوان الله تعالى على عباده المؤمنين الذي لا يعقبه سخط أبداً!
في هذه القصة وما حوته من أحداث وعِبر عِظام أنزل الله تعالى قوله في سورة البروج: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ** البروج: 4 - 8.
وصلى الله على محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلَّم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين [/center] [/center] | |
|